Monday 9 July 2012

على أرض الوطن المحروس.. رح نتلاقى يوماً ما






ساره جمال


يتحدث الجميع حولي عن الوطن الجديد.. عن يوتوبيا جديدة وفاءً لدماء من قُتلوا و آهات من جُرحوا.. و بالرغم من أني ربما لم و لن أستطيع أن أتجاوز 15 يناير 2011 و أن أعود إلى ما كنت قبله.. و بالرغم من أني أحلم أيضاُ بال"جديد" و لكني لا أعرف إن كنت أستطيع تسميته "وطن".. ربما لأني عندما خرجت إلى الشارع في 15 يناير, لم أكن أريد إنقاذ وطن و إنما البحث في الواقع عن ذلك الكيان الهلامي الذي صنعته مخيلتي كما تصنع مخيلة المراهقة حبيباً وهمياً من نغم و ورق...

لا تقلقوا فأنا لا أعاني من الإحباط الذي أصاب من حولي عندما ارتطم سقف توقعاتهم بآخر طبقات الكرة الأرضية عندما شاهدوا "الجديد" يتحول إلى حجر أساس مشروع الدولة الثيوقراطية تارة لل"شيخ" فلان و تارةً أخرى لل"سيد" علان.. و عندما شاهدوا دبابات الفرقة الأولى مدرع تحتمي بأحلامهم و سيد تلك الدبابات يغسل يديه من الدماء بدماء من نريد أن نفي لهم بالعهود... و أخيراً عندما شاهدوا المتحدثين باسم مشروعهم المدني يعانقون قاتلهم...

الأمر و ما فيه أنني لم أملك سوى أن أسأل هل كان هناك وطن قديم و الآن نبني الجديد؟ أم أننا بحاجة لبناء وطن من الصفر؟ تذكرت لوهلة ما قالته لي الكاتبة نبيلة الزبير في فبراير 2011 عندما كان الجميع يهتف: "الشعب يريد إسقاط النظام".. يومها قالت لي:" أي نظام؟ ألتفت حولي فلا أرى نظاماً ليسقط! الشعب يريد إحلال النظام"
 
كل يوم من حياتي في صنعاء يجعلني أتمتم لا إرادياً.. أريد وطن.. بدون جديد و لا قديم! فلم يكن هناك وطن! كان و ما زال هناك أرصفة يفترشها مئات العمال للنوم أشهراً طمعاً في أن يأتي الأستاذ أو الشيخ أو الدكتور ليطلب من أحدهم أن يأتي معه لطلاء البيت فيتهافتون طمعاً في ما يعادل 60 دولار بعد أشهر من الانتظار.. و حتى بعد أن يصعد أحدهم إلى السيارة الفخمة ليذهب إلى البيت الأفخم, يظل الباقون يجرون خلف السيارة عل و عسى يتذكر صاحبها أن هناك حنفية ماء بحاجة إلى تركيب أو طابق آخر بحاجة للبناء لفصل غرف النوم عن رائحة المطبخ و أصوات الخادمات..

كل شارع في صنعاء بالرغم من كثرة تلك الشوارع, صار ضيقاُ جداً لا يتسع لقدمي.. ليس لأنهما لديناصور منقرض بل لأنهما لأنثى.. نعم, إن كنتِ أنثى في هذا البلد, فالشوارع لا تتسع لك.. بل أحياناً يضيق الحال لدرجة أن كل الكائنات تمتص الهواء من حولك لتشاهدك تختنقين ببطء حتى تهتريء تلك الأقدام و تفقد القدرة على أن تحمل ما عليها...إن كنت أنثى في هذا البلد فعليك أن تعي جيداً أن هذه الأرض أبت أن تكون لك وطناً بعد أن عمل كل من في أقصى اليسار إلى أقصى اليمين على تشييئك حتى صرت قطعة لحم لا أكثر و لا أقل..

قبل أيام شاهدت هذه الصورة على الانترنت.. تمالكت نفسي كي لا أتقيأ.. ليس لأني أخشى رؤية اللحم أو الدم, فقد أخذت نصيبي من الزيارات اليومية للمشرحة خلال عام كامل جعلتني أكثر مهنية في التعامل مع صور الأشلاء و الدماء.. و لكني أحسست بالقرف البالغ تجاه جسدي و عدت لأتمالك نفسي و أتذكر أن هذه هي المعركة بيني و بينهم.. هم يريدون أن أحس بالعار من كياني و أنا أرى نفسي قطعة لحم... قطعة لحم يتاجر بها أقصى اليمين باسم الدين فتصير وعاء لخدمة الذكر و مصنعاً للإنجاب و حسبها... و قطعة لحم يتاجر فيها من سموا أنفسهم بالتقدميين و التحرريين و و و و ... من تسميات اجتهدوا فيها كثيراً كما اجتهدوا في استخدام "قطعة اللحم" لتسويق كل شيء بدايةً بعلبة الكبريت و انتهاءً بسيارات اللامبورجيني و الفيراري و بالطبع مروراً بصناديق الاقتراع...

أنا لا أحس أن لي وطن.. أنا أحس أن هناك أرضٌ ضيقها علي كل من في الشارع بطلقات القبح الذي تبصقه أعينهم و أفواههم.. ففي مدينتي تخرج الفتاة و هي مغطاة بالسواد من رأسها و حتى أخمص قدميها للتفادى القبح, و لكنه لا يتفادها! قبح في الشارع, في المواصلات العامة و الخاصة, في أروقة المدارس و الجامعات, في الأسواق و القبح الأشد هو أنها تسكت لأنها لو نطقت لقالوا لها: و لماذا خرجتِ أصلاً؟

إن كنتِ أنثى في هذا البلد و قد اخترت أن تتعلمي و تعملي, فاعملي أني أنحني لك و أقبل الأرض من تحت أقدامك.. تلك الأرض التي لم تحملك و لم تدافع عن حقك في المواطنة المتساوية و أنت تمشين تحت قيض الشمس في ماراثون لتهربي من هذا الذي يدس يده القذرة في خاصرتك حيناً و ذاك الذي يغرس عيناه القبيحتان في صدرك تارةً أخرى...

إن كنتِ أنثى في هذا البلد و اخترت أن تناضلي في المدرسة و الجامعة و المؤسسة و الحافلة العمومية و سيارة الأجرة و المحل التجاري و سوق الخضار, فأنت تصنعين وطناً من الصفر... وطناً على أرض تريدنها أن تحملك كم تحمل شريكك الرجل بكل رحابة...

إن كنت أماً عاملة تمسكين بيد طفلتك لتودعيها في صفوف التعليم كل صباح و تركضي إلى مقر عملك وسط كل ذلك السيل النابي, فأنت تصنعين لك و لها وطناً..

أما الأحزاب يميناً و يساراً فلا أملك سوى أن أقول لكم تباً لكم من أكبر كبير لأصغر صغير... لم نر منكم أي وقفة حق غير أقنعة مستعارة أمام الداعمين الأوروبيين و الأمريكان الذين تتقنون أمامهم دروس مساواة النوع الاجتماعي التي حفظتموها عن ظهر غيب لتنالوا بها الدولار و اليورو فتمرغوا به لحية الشيخ و تقدمية الرفيق على حد سواء... لم نر منكم أي بادرة تعالج هموم الكادحة التي تحمل الجبال على ظهرها في الريف و الحضر كل يوم.. و بالطبع حتى ناشطتنا النوبلية تبرأت من أي أمر له صلة بالنسوية أو النشاط النسوي منذ أول مقابلة تلفزيونية لها بعد الجائزة ولم نسمع لها أي اعتراض على ما يحدث في الشارع.. سواء أثناء شراء مثيلتها لرغيف عيش أوسيرها في مسيرة للمطالبة بحق عام أو خاص...

و في بداية و نهاية كل يوم نظل نرسم صورة للوطن كما ترسم المراهقة صورة الحبيب المنتظر.. و كما تقول جوليا بطرس في آخر أغنياتها:

على رغم الجو المشحون.. تبعاً للظرف المرهون.. مطرح ما عيونك بتكون.. بحلم شوفك يوماُ ما.. و بكرة بيخلص هالكابوس.. و بدل الشمس بتضوي شموس.. و على أرض الوطن المحروس.. رح نتلاقى يوماً ما..
مصدر المقال

No comments:

Post a Comment

LinkWithin

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...